سيطر المحتوى السريع، خاصة مقاطع الفيديو القصيرة، على الشاشات والهواتف، وبات يختزل كل شيء في “مقطع ريلز” لا تتجاوز مدته ثوانٍ معدودة. لقد صنع هذا المحتوى ضجيجًا كبيرًا، وسيطر على العقول، وسدّ شرايين تغذية الفكر وتفتح الذهن وتطوير الوعي، حتى أصبح عقل الإنسان كقطعة حجر صمّاء تتلقى الضربات واحدة تلو الأخرى، مما يجعل المتلقي يستقبل أي شيء دون تفكير أو إمعان. وهذا لا ينفي وجود بعض المقاطع المفيدة التي تحمل فكرة ورسالة، لكنها قلّما تُوجد وسط هذا الزحام.
هناك مجتمعات واسعة، وفئات كثيرة، لا تعطي اهتمامًا كبيرًا لهذا النوع من المحتوى لأنه يعد إهدارا للوقت، وإرهاقًا للذهن، وغزوخا للفكر يهدد الأجيال الواعدة.
وأمام هذا التحدي نجد أنفسنا أمام ضرورة ملحّة لعودة القراءة مرة أخرى، لتفرض نفسها كحاجة أساسية لا كرفاهية. ورغم الضجيج الذي يصنعه المحتوى القصير، يجب أن تكون هناك مبادرات مجتمعية وثقافية تعيد الاعتبار للكتاب ودوره كأداة لبناء الوعي وتطوير الفكر، في محاولة لكسر هيمنة ما يُعرف بثقافة “اللقطة” و“التمرير السريع”.
تأتي أهمية هذه المبادرات من محاولتها حماية العقل من الانجراف وراء موجة تستهلك الانتباه وتُضعف قدرة الإنسان على التركيز. فالمحتوى السريع، رغم جاذبيته وسهولة استهلاكه، ينتج عقلًا متعجلًا غير قادر على التعمّق. وهنا تلعب القراءة دورًا معاكسًا تمامًا؛ فهي فعل يتطلب الهدوء، ويمنح مساحة للتفكير، ويفتح الباب أمام بناء معرفة حقيقية تتجاوز السطحية اللحظية.
وفي السنوات الأخيرة، انتشرت حملات ومبادرات لتشجيع القراءة عبر منصات رقمية وجهود شبابية، إلى جانب مبادرات حكومية تدعم معارض الكتاب وتوفر نسخًا بأسعار مخفضة. كما أسهمت الكتب الصوتية في جذب فئات جديدة من الشباب الذين وجدوا فيها وسيلة عملية للقراءة أثناء التنقل أو العمل.
ورغم ذلك، ما زالت سطوة المحتوى السريع قوية. فالمنافسة بين الكتاب والفيديو القصير غير عادلة، في ظل خوارزميات تفرض نمطًا سريعًا من الاستهلاك. إلا أن المبادرات التي تستهدف بناء علاقة جديدة مع القراءة لا تهدف فقط إلى زيادة عدد القراء، بل إلى إعادة تشكيل وعي يرفض الاستسلام لسرعة العالم ويفضّل التعمق على التلقّي العابر.
إن عودة القراءة ليست مجرد حركة ثقافية، بل خطوة دفاعية عن قدرة الإنسان على التفكير النقدي. فالمجتمع القارئ قادر على مواجهة التضليل، وفهم الأحداث، وتكوين آراء مستقلة. وفي عالم تتنافس فيه المعلومات المختصرة على عقول الناس، تصبح القراءة مساحة مقاومة هادئة تعيد للإنسان قدرته على التأمل والحكم السليم.
يبقى هذا الصراع رهانًا على المستقبل، ورسالة واضحة بأن المعرفة لا يمكن أن تُختزل في دقائق معدودة، وأن الكتاب سيظل – رغم كل شيء – حجر الأساس في بناء مجتمع واعٍ قادر على استيعاب التغيير بدلًا من الانجراف خلف محتوى أغلبه – وأقول أغلبه لا كله – مجرد "سراب".